فصل: فصل: قول عائشة‏:‏ ما زال رسول اللّه يعتكف العشر الأواخر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وسئل

ـ رضي اللّه عنه وأرضاه ـ عن ليلة القدر، وهو معتقل بالقلعة ـ قلعة الجبل ـ سنة ست وسبعمائة‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان هكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏هي في العشر الأواخر من رمضان‏)‏‏.‏ وتكون في الوتر منها‏.‏

لكن الوتر يكون باعتبار الماضي، فتطلب ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين‏.‏

/ويكون باعتبار ما بقى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لِتَاسِعةٍ تَبْقِى، لِسَابعةٍ تبقى، لخامِسةٍ تَبْقَى، لِثَاِلثةٍ تَبْقَى‏)‏‏.‏ فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليال الإشفاع، وتكون الإثنين وعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى، وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح‏.‏ وهكذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم في الشهر‏.‏

وإن كان الشهر تسعاً وعشرين؛ كان التاريخ بالباقي، كالتاريخ الماضي‏.‏

وإذا كان الأمر هكذا، فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَحروها في العشر الأواخر‏)‏‏.‏ وتكون في السبع الأواخر أكثر، وأكثر ما تكون ليلة سبع وعشرين كما كان أبي بن كعب يحلف أنها ليلة سبع وعشرين، فقيل له‏:‏ بأي شيء علمت ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ بالآية التي أخبرنا رسول اللّه أخبرنا أن الشمس تطلع صبحة صبيحتها كالطَّشْت، لاشعاع لها‏.‏

فهذه العلامة التي رواها أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم/ من أشهر العلامات في الحديث، وقد روي في علاماتها‏:‏ أنها ليلة بلجة منيرة، وهي ساكنة لا قوية الحر، ولا قوية البرد، وقد يكشفها اللّه لبعض الناس في المنام أو اليقظة، فيرى أنوارها، أو يرى من يقول له‏:‏ هذه ليلة القدر، وقد يفتح على قلبه من المشاهدة ما يتبين به الأمر‏.‏ واللّه ـ تعالى ـ أعلم‏.‏

 وسئل عن ‏[‏ليلة القدر‏]‏، و‏[‏ليلة الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم‏]‏ أيهما أفضل ‏؟‏

فأجاب‏:‏

بأن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي صلى الله عليه وسلم وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة، فحظ النبي صلى الله عليه وسلم الذي اختص به ليلة المعراج منها أكمل من حظه من ليلة القدر‏.‏

وحظ الأمة من ليلة القدر أكمل من حظهم من ليلة المعراج، وإن كان لهم فيها أعظم حظ، لكن الفضل والشرف والرتبة العليا إنما حصلت فيها، لمن أسرى به صلى الله عليه وسلم‏.‏

/ وسئل عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل ‏؟‏

فأجاب‏:‏

أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة‏.‏

قال ابن القيم‏:‏ واذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب‏.‏ وجده شافيا كافياً؛ فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى اللّه من أيام عشر ذي الحجة، وفيها‏:‏ يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم التروية‏.‏

وأما ليالي عشر رمضان، فهي ليالي الإحياء، التي كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر‏.‏

فمن أجاب بغير هذا التفصيل، لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة‏.‏

/ سُئِل شيخ الإسلام‏:‏ أيما أفضل‏:‏ يوم عرفة، أو الجمعة، أو الفطر، أو النحر‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة باتفاق العلماء، وأفضل أيام العام هو يوم النحر، وقد قال بعضهم‏:‏ يوم عرفة، والأول هو الصحيح؛ لأن في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أفضل الأيام عند اللّه يوم النحر ثم يوم القَرِّ‏)‏؛ لأنه يوم الحج الأكبر في مذهب مالك والشافعي وأحمد، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يوم النحر هو يوم الحج الأكبر‏)‏‏.‏

وفيه من الأعمال مالا يعمل في غيره، كالوقوف بمزدلفة، ورمى جمرة العقبة وحدها، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة، فإن فعل هذه فيه أفضل بالسنة، واتفاق العلماء‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل عن يوم الجمعة، ويوم النحر، أيهما أفضل ‏؟‏

فأجاب‏:‏

يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام‏.‏

قال ابن القيم‏.‏ وغير هذا الجواب لا يسلم صاحبه من الاعتراض الذي لا حيلة له في دفعه‏.‏

 وسئل عن أفضل الأيَّام ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم‏.‏ وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها‏.‏

وأفضل أيام العام يوم النحر، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفضل الأيام عند اللّه يوم النحر، ثم يوم القَرِّ‏)‏‏.‏

 وسئل عن رجل نذر أنه يصوم الاثنين والخميس، ثم بدا له أن يصوم يوماً، ويفطر يوماً، ولم يرتب ذلك إلا بأن يصوم أربعة أيام، ويفطر ثلاثة أو يفطر أربعة، ويصوم ثلاثة، فأيهما أفضل‏؟‏ أفتونا ـ يرحمكم اللّه ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، إذا انتقل من صوم الاثنين والخميس إلى صوم /يوم وفطر يوم، فقد انتقل إلى ما هو أفضل، وفيه نزاع، والأظهر أن ذلك جائز، كما لو نذر الصلاة في المسجد المفضول، وصلى في الأفضل، مثل أن ينذر الصلاة في المسجد الأقصى، فيصلي في مسجد أحد الحرمين‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عما ورد في ثواب صيام الثلاثة أشهر، وما تقول في الاعتكاف فيها، والصمت‏:‏ هل هو من الأعمال الصالحات أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما تخصيص رجب وشعبان جميعاً بالصوم أو الاعتكاف، فلم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، ولا عن أصحابه، ولا أئمة المسلمين، بل قد ثبت في الصحيح‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يصوم إلى شعبان، ولم يكن يصوم من السنة أكثر مما يصوم من شعبان، من أجل شهر رمضان‏.‏

وأما صوم رجب بخصوصه، فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروي في /الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات، وأكثر ما روي في ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل رجب يقول‏:‏ ‏(‏اللهم بارك لنا في رجب، وشعبان وبلغنا رمضان‏)‏‏.‏

وقد روى ابن ماجه في سننه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن صوم رجب، وفي إسناده نظر، لكن صح أن عمر بن الخطاب كان يضرب أيدي الناس؛ ليضعوا أيديهم في الطعام في رجب، ويقول‏:‏ لا تشبهوه برمضان‏.‏

ودخل أبو بكر فرأى أهله قد اشتروا كيزانا للماء، واستعدوا للصوم، فقال‏:‏ ما هذا ‏؟‏‏!‏ فقالوا‏:‏ رجب، فقال‏:‏ أتريدون أن تشبهوه برمضان ‏؟‏ وكسر تلك الكيزان‏.‏ فمتى أفطر بعضاً لم يكره صوم البعض‏.‏

وفي المسند وغيره حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بصوم الأشهر الحرم، وهي رجب، وذوالقعدة، وذو الحجة، والمحرم‏.‏ فهذا في صوم الأربعة جميعا، لا من يخصص رجب‏.‏

وأما تخصيصها بالاعتكاف، فلا أعلم فيه أمراً، بل كل من صام صوماً /مشروعاً، وأراد أن يعتكف من صيامه كان ذلك جائزاً بلا ريب، وإن اعتكف بدون الصيام، ففيه قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لا اعتكاف إلا بصوم، كمذهب أبي حنيفة، ومالك‏.‏

والثاني‏:‏ يصح الاعتكاف بدون الصوم، كمذهب الشافعي‏.‏

وأما الصمت عن الكلام مطلقاً في الصوم أو الاعتكاف أو غيرهما، فبدعة مكروهة باتفاق أهل العلم، لكن هل ذلك محرم، أو مكروه ‏؟‏ فيه قولان في مذهبه وغيره‏.‏

وفي صحيح البخاري‏:‏ أن أبا بكر الصديق دخل على امرأة من أحمس فوجدها مُصْمَتةً لا تتكلم، فقال لها أبو بكر‏:‏ إن هذا لا يحل، إن هذا من عمل الجاهلية، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائماً في الشمس، فقال‏:‏ ‏(‏من هذا‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم ويصوم، فقال‏:‏ ‏(‏مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه‏)‏‏.‏ فأمره صلى الله عليه وسلم مع نذره للصمت أن يتكلم، كما أمره مع /نذره للقيام أن يجلس، ومع نذره ألا يستظل، أن يستظل، وإنما أمره بأن يوفي بالصوم فقط‏.‏ وهذا صريح في أن هذه الأعمال ليست من القرب التي يؤمر بها الناذر‏.‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏من نذر أن يُطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أنه يعصى اللّه فلا يعصه‏)‏‏.‏ كذلك لا يؤمر الناذر أن يفعلها، فمن فعلها على وجه التعبد بها والتقرب واتخاذ ذلك ديناً وطريقاً إلى اللّه ـ تعالى، فهو ضال جاهل، مخالف لأمر اللّه ورسوله‏.‏ ومعلوم أن من يفعل ذلك ـ من نذر اعتكافاً، ونحو ذلك ـ إنما يفعله تديناً، ولا ريب أن فعله على وجه التدين حرام؛ فإنه يعتقد ما ليس بقربة قربةً، ويتقرب إلى اللّه ـ تعالى ـ بمالا يحبه اللّه، وهذا حرام، لكن من فعل ذلك قبل بلوغ العلم إليه، فقد يكون معذوراً بجهله، إذا لم تقم عليه الحجة، فإذا بلغه العلم فعليه التوبة‏.‏

وجماع الأمر في الكلام قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت‏)‏‏.‏ فقول الخير ـ وهو الواجب، أو المستحب ـ خير من السكوت عنه، وما ليس بواجب، ولا مستحب، فالسكوت عنه خير من قوله‏.‏

/ولهذا قال بعض السلف لصاحبه‏:‏ السكوت عن الشر خير من التكلم به، فقال له الآخر‏:‏ التكلم بالخير خير من السكوت عنه‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 114‏]‏‏.‏

وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، أو ذكراً للّه تعالى‏)‏‏.‏ والأحاديث في فضائل الصمت كثيرة، وكذلك في فضائل التكلم بالخير والصمت عما يجب من الكلام حرام، سواء اتخذه ديناً أو لم يتخذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجب أن تحب ما أحبه اللّه ورسوله، وتبغض ما يبغضه اللّه ورسوله، وتبيح ما أباحه اللّه ورسوله، وتحرم ما حرمه اللّه ورسوله‏.‏

/وَقَالَ ـ رحمهُ اللّه‏:‏

 فصل

قول عائشة‏:‏ ما زال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر حتى قبضه اللّه‏.‏ هذا إشارة إلى مقامه في المدينة وأنه كان يعتكف أداء أو قضاء، فإنه قد ثبت في الصحيح‏:‏ أنه أراد أن يعتكف مرة، فطلب نساؤه الاعتكاف معه، فرأى أن مقصود بعضهن المباهاة، فأمر بالخيام فَقُوِضَت، وترك الاعتكاف ذلك العام، حتى قضاه من شوال‏.‏

وهو صلى الله عليه وسلم لم يصم رمضان إلا تسع مرات، فإنه فرض في العام الثاني من الهجرة، بعد أن صام يوم عاشوراء، وأمر الناس بصيامه مرة واحدة، فإنه قدم المدينة في شهر ربيع الأول من السنة الأولى‏.‏ وقد تقدم عاشوراء فلم يأمر ذلك العام بصيامه، فلما أَهلَّ العام الثانى أمر الناس بصيامه، وهل كان أمر إيجاب، أو / استحباب‏؟‏ على قولين لأصحابنا وغيرهم، والصحيح أنه كان أمر إيجاب ابتدئ في أثناء النهار، لم يؤمروا به من الليل‏.‏

فلما كان في أثناء الحول ـ رجب أو غيره ـ فرض شهر رمضان وغزا النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ذلك العام ـ أول شهر فرض ـ غزوة بدر، وكانت يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من الشهر، فلما نصره اللّه على المشركين أقام بالعَرْصة بعد الفتح ثلاثاً، فدخل عليه العشر وهو في السفر، فرجع إلى المدينة، ولم يبق من العشر إلا أقله، فلم يعتكف ذلك العشر بالمدينة، وكان في تمامه مشغولاً بأمر الأسرى والفداء، ولما شاورهم في الفداء قام فدخل بيته ثم خرج‏.‏

وأحواله المنقولة عنه تدل على أنه لم يعتكف تمام ذلك العشر، لكن يمكن أنه قضى اعتكافه كما قضى صيامه، وكما قضى اعتكاف العام الذي أراد نساؤه الاعتكاف معه فيه، فهذا عام بدر‏.‏

وأيضا، فعام الفتح سنة ثمان، كان قد سافر في شهر رمضان، ودخل مكة في أثناء الشهر، وقد بقي منه أقله، وهو في مكة مشتغل بآثار الفتح، وتسرية السرايا إلى ما حول مكة،وتقرير أصول /الإسلام بأم القرى، والتجهز لغزو هوازن، لما بلغه أنهم قـد جمعوا له مع مالك بن عوف النَّضَري، وقد أقام بمكة في غزوة الفتح تسع عشرة ليلة يقصر الصلاة‏.‏

قالوا‏:‏ لأنه لم يكن قد أجمع المقام بمكة لأجل غزو هوازن، فكان مسافراً فيها غير متفرغ للاعتكاف بمكة ذلك العام، فهذه ثلاثة أعوام لم يعتكف فيها في رمضان، بل قضى العام الواحد الذي أراد اعتكافه ثم تركه، وأما الآخران ـ فاللّه أعلم ـ أقضاهما مع الصوم، أم لم يقضهما مع شطر الصلاة، فقد ثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم‏)‏، وثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه وضع عن المسافر الصوم وشَطْرَ الصلاة‏)‏‏.‏ أي‏:‏ الصوم أداءً، والشطر أداء وقضاء، فالاعتكاف ملحق بأحدهما‏.‏

ولم ينقل عنه أنه قضى اعتكافاً فاته في السفر، فلا يثبت الجواز، إلا أنه لعموم حديث عائشة يبقى فيه إمكان‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل عمن يعمل كل سنة ختمة في ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل ذلك مستحب أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمـد للّه، جمـع الناس للطعام في العيـدين، وأيـام التشريق سـنة، وهـو مـن شعائر الإسلام التي سنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للمسلمين، وإعانة الفقراء بالإطعام في شهر رمضان هو من سنن الإسلام، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من فَطَّرَ صائماً فله مثل أجره‏)‏ وإعطاء فقراء القُرَّاء ما يستعينون به على القرآن عمل صالح في كل وقت، ومن أعانهم على ذلك كان شريكهم في الأجر‏.‏

وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية، كبعض ليالي شهر ربيع الأول، التي يقال‏:‏ إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب،أو ثامن شوال، الذي يسميه الجهال‏:‏ عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها، واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏

/ وسئل شيخُ الإِسلام عما يفعلـه الناس في يـوم عاشـوراء من الكحل، والاغتسال، والحِنَّاء، والمصافحة، وطبخ الحبوب، وإظهار السرور، وغير ذلك إلى الشارع، فهل ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح أم لا ‏؟‏ وإذا لم يرد حديث صحيح في شيء من ذلك، فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا ‏؟‏ وما تفعله الطائفة الأخرى من المأتم والحزن والعطش، وغير ذلك من الندب والنياحة، وقراءة المصروع، وشق الجيوب‏.‏ هل لذلك أصل أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين، لا صحيحاً ولا ضعيفاً، لا في كتب الصحيح /ولا في السنن ولا المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة‏.‏

ولكن روى بعض المتأخرين في ذلك أحاديث مثل ما رووا أن من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد من ذلك العام، ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام، وأمثال ذلك‏.‏

ورووا فضائل في صلاة يوم عاشوراء، ورووا أن في يوم عاشوراء توبة آدم، واستواء السفينة على الجُودِيِّ، ورد يوسف على يعقوب، وإنجاء إبراهيم من النار، وفداء الذبيح بالكبش ونحو ذلك‏.‏

ورووا في حـديث موضـوع مكـذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، أنـه مـن وسـع على أهلـه يـوم عاشوراء وسع اللّه عليه سائر السنة‏.‏ ورواية هذا كله عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب، ولكنه معروف من رواية سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه، قال‏:‏ بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء، وسع اللّه عليه سائر سنته،وإبراهيم بن محمد بن المنتشر من أهل الكوفة، وأهل الكوفة كان فيهم طائفتان‏:‏

/طائفـة رافضـة يظهـرون مـوالاة أهل البيت، وهم في الباطن إمـا ملاحـدة زنادقة، وإمـا جهال وأصحاب هوى‏.‏

وطائفة ناصبة تبغض عليًّا وأصحابه؛ لما جرى من القتال في الفتنة ما جرى‏.‏

وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏سيكون في ثَفِيف كَذّابٌ، وَمُبِيرٌ‏)‏، فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكان يظهر موالاة أهل البيت، والانتصار لهم، وقتل عبيد اللّه بن زياد ـ أمير العراق ـ الذي جهز السرية التي قتلت الحسين ابن على ـ رضي اللّه عنهما ـ ثم إنه أظهر الكذب، وادعى النبوة، وأن جبريل عليه السلام ينزل عليه، حتى قالوا لابن عمر وابن عباس، قالوا لأحدهما‏:‏ إن المختار بن أبي عبيد يزعم أنه ينزل عليه، فقال‏:‏ صدق، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏221،222‏]‏، وقالوا للآخر‏:‏ إن المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال‏:‏ صدق‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏‏.‏

وأما المبير، فهو الحجاج بن يوسف الثقفي، وكـان منحرفاً عن على وأصحابه، فكان هذا من النواصب، والأول من الروافض، وهذا /الرافضي كـان أعظم كذباً وافتراء وإلحاداً في الدين، فإنه ادعى النبوة، وذاك كان أعظـم عقوبـة لمن خرج علــى سلطانه، وانتقامـاً لمن اتهمه بمعصية أميره عبد الملك بن مروان، وكان في الكوفة بين هؤلاء وهؤلاء فتن وقتال، فلما قُتِل الحسين بن على ـ رضي الله عنهما ـ يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية، وأكرم اللّه الحسين بالشهادة، كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته، أكرم بها حمزة وجعفر، وأباه عليا وغيرهم، وكانت شهادته مما رفع اللّه بها منزلته، وأعلى درجته، فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة، والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل‏:‏ أي الناس أشد بلاء‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رِقةٌ خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة‏)‏ رواه الترمذي وغيره‏.‏

فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من اللّه ـ تعالى ـ ما سبق من المنزلة العالية، ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب، فإنهما ولدا في عز الإسلام، وتربيا في عز وكرامة، والمسلمون يعظمونهما ويكرمونهما، ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستكملا سن التمييز،/ فكانت نعمة اللّه عليهما أن ابتلاهما بما يلحقهما بأهل بيتهما، كما ابتلى من كان أفضل منهما، فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما، وقد قتل شهيداً، وكان مقتل الحسين مما ثارت به الفتن بين الناس، كما كان مقتل عثمان ـ رضي اللّه عنه ـ من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس، وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم؛ ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏ثلاث من نجا منهن فقد نجا‏:‏ موتي، وقتل خليفة مضطهد، والدجال‏)‏‏.‏

فكان موت النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الأسباب التي افتتن بها خلق كثير من الناس، وارتدوا عن الإسلام، فأقام اللّه ـ تعالى ـ الصديق ـ رضي اللّه عنه ـ حتى ثبت اللّه به الإيمان، وأعاد به الأمر إلى ما كان، فأدخل أهل الردة في الباب الذي منه خرجوا، وأقر أهل الإيمان على الدين الذي ولجوا فيه، وجعل اللّه فيه من القوة والجهاد والشدة على أعداء اللّه، واللين لأولياء اللّه ما استحق به وبغيره أن يكون خليفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم استخلف عمر، فقهر الكفار من المجوس وأهل الكتاب، وأعز الإسلام، ومصر الأمصار، وفرض العطاء، ووضع الديوان، ونشر العدل، وأقام السنة، وظهر الإسلام في أيامه ظهوراً بان به تصديق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفي بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 28‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏، وقــول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا هلك كسرى فلا كسرى بعـده، وإذا هلك قيصرُ فلا قيصرَ بعده، والذي نفسي بيده لَتُنْفَقَنَ كُنُوُزَهَما في سبيل اللّه‏)‏‏.‏ فكان عمر ـ رضي الله عنه ـ هو الذي أنفق كنوزهما، فعلم أنه أنفقها في سبيل اللّه، وأنه كان خليفة راشداً مهدياً، ثم جعل الأمر شورى في ستة، فاتفق المهاجرون والأنصار على تقديم عثمان بن عفان من غير رغبة بذلها لهم، ولا رهبة أخافهم بها، وبايعوه بأجمعهم طائعين غيــر كارهين، وجرى في آخر أيامه أسباب ظهر بالشر فيها على أهل العلم أهل الجهل والعدوان، ومازالوا يسعون في الفتن حتى قتل الخليفة مظلوماً شهيداً بغير سبب يبيح قتله وهو صابر محتسب، لم يقاتل مسلماً‏.‏

فلما قُتِلَ ـ رضي اللّه عنه ـ تفرقت القلوب، وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار، وذل الأخيار، وسعى في الفتنة من كان عاجزاً عنها، وعجز عن الخير والصلاح من كان يحب إقامته، فبايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ وهو أحق الناس بالخلافة حينئذ، /وأفضل من بقى، لكن كانت القلوب متفرقة، ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة، ولم تنتظم الجماعة، ولم يتمكن الخليفة وخيار الأمة من كل ما يريدونه من الخير، ودخل في الفرقة والفتنة أقوام، وكان ما كان إلى أن ظهرت الحَرُورية المارقة، مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، فقاتلوا أمير المؤمنين عليًا ومن معه، فقتلهم بأمرالله ورسوله، طاعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما وصفهم بقوله‏:‏ ‏(‏يَحْقِرُ أحَدُكُم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآنَ لا يجاوز حَنَاجِرَهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏تمرق مَارقةٌ على حين فرقة من المسلمين، يقتلهم أدنى الطائفتين إلىالحق‏)‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏

فكانت هذه الحَرُورية هي المارقة، وكان بين المؤمنين فُرْقة، والقتال بين المؤمنين لا يخرجهم من الإيمان، كما قال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9،10‏]‏ فبين ـ سبحانه وتعإلىـ أنهم مع الاقتتال وبغي بعضهم /على بعض مؤمنون إخوة، وأمر بالإصلاح بينهم، فإن بغت إحداهما بعد ذلك قوتلت الباغية، ولم يأمر بالاقتتال ابتداء‏.‏

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الطائفـة المارقة يقتلها أدنى الطائفـتين إلىالحق، فكان على بن أبي طالب ومن معه هم الذين قاتلوهم، فدل كلام النبي صلى الله عليه سلم على أنهم أدنى إلىالحق من معاوية ومن معه مع إيمان الطائفتين‏.‏

ثم إن عبد الرحمن بن ملجم من هؤلاء المارقين، قتل أمير المؤمنين عليا، فصار إلىكرامة الله ورضوانه شهيدًا، وبايع الصحابة للحسن ابنه، فظهرت فضيلته التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه سلم في الحديث الصحيح حيث قال‏:‏ ‏(‏إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين‏)‏ فنزل عن الولاية وأصلح الله به بين الطائفتين، وكان هذا مما مدحه به النبي صلى الله عليه سلم وأثني عليه، ودل ذلك على أن الإصلاح بينهما مما يحبه الله ورسوله ويحمده الله ورسوله‏.‏

ثم إنه مات وصار إلىكرامة الله ورضوانه، وقامت طوائف كاتبوا الحسين ووعدوه بالنصر والمعاونة إذا قام بالأمر، ولم يكونوا من أهل /ذلك، بل لما أرسل إليهم ابن عمه أخلفوا وعده، ونقضوا عهده، وأعانوا عليه ن وعدوه أن يدفعوه عنه، ويقاتلوه معه‏.‏

وكان أهل الرأي والمحبة للحسين كابن عباس وابن عمر وغيرهما أشاروا عليه ألا يذهب إليهم، ولا يقبل منهم، ورأوا أن خروجه إليهم ليس بمصلحة، ولا يترتب عليه ا يسر، وكان الأمر كما قالوا، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا‏.‏

فلما خرج الحسين ـ رضي الله عنه ـ ورأي أن الأمور قد تغيرت، طلب منهم أن يدعوه يرجع، أو يلحق ببعض الثغور، أو يلحق بابن عمه يزيد، فمنعوه هذا وهذا، حتي يستأسر، وقاتلوه، فقاتلهم، فقتلوه وطائفة ممن معه مظلومًا شهيدًا شهادة أكرمه الله بها وألحقه بأهل بيته الطيبين الطاهرين، وأهان بها من ظلمه واعتدي عليه، وأوجب ذلك شرًا بين الناس‏.‏

فصارت طائفة جاهلة ظالمة، إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية، تظهر موالاته وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود، وشق الجيوب، والتعزي بعزاء الجاهلية‏.‏

/والذي أمر الله به ورسوله في المصيبة ـ إذا كانت جديدة ـ إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع، كما قال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إليهِ رَاجِعونَ أُولَـئِكَ عليهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155،157‏]‏، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ليس منا من لطم الخدودَ، وشق الجيوبَ، ودعا بدعوي الجاهلية‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏أنا بريء من الصالقةِ، والحَالِقةِ، والشاقةِ‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب‏)‏‏.‏ وفي المسند عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين، عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يصاب بمصيبة، فيذكر مصيبته وإن قدمت، فيحدث لها استرجاعًا، إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها‏)‏‏.‏

وهذا من كرامة الله للمؤمنين، فإن مصيبة الحسين وغيره إذا ذكرت بعد طول العهد، فينبغي للمؤمن أن يسترجع فيها كما أمر الله ورسوله ليعطي من الأجر مثل أجر المصاب يوم أصيب بها‏.‏

وإذا كان الله ـ تعإلىـ قد أمر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد /بالمصيبة،فكيف مع طول الزمان‏؟‏‏!‏ فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشوراء مأتمًا، وما يصنعون فيه من الندب والنياحة، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسل بذلك إلىسب السابقين الأولين، وكثرة الكذب والفتن في الدنيا، ولم يعرف طوائف الإسلام أكثر كذبًا وفتنًا ومعاونة للكفار على أهل الإسلام من هذه الطائفة الضالة الغاوية، فإنهم شر من الخوارج المارقين‏.‏

وأولئك قال فيهم النبي صلى الله عليه سلم‏:‏ ‏(‏يقتلون أَهْـلَ الإسلام، ويدعـون أهـل الأوثـان‏)‏‏.‏ وهـؤلاء يعاونـون اليهـود والنصاري والمشركين على أهل بيت النبي صلى الله عليه سلم، وأمتـه المؤمنين كما أعانـوا المشـركين من الترك والتتار على ما فعلوه ببغداد وغيرها بأهل بيت النبوة، ومعـدن الرسالـة ولد العباس، وغـيرهم من أهل البيت والمؤمنين، من القتل والسبي وخراب الديار‏.‏ وشر هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام لا يحصيه الرجل الفصيح في الكلام‏.‏

فعارض هؤلاء قوم إما من النواصب المتعصبين على الحسين وأهل /بيته، وإما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد، والكذب بالكذب، والشر بالشر، والبدعة بالبدعة، فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال والاختضاب، وتوسيع النفقات على العيال، وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة، ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد والمواسم، فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسمًا كمواسم الأعياد والأفراح، وأولئك يتخذونه مأتمًا يقيمون فيه الأحزان والأتراح، وكلا الطائفتين مخطئة خارجة عن السنة، وإن كان أولئك أسوأ قصدًا وأعظم جهلاً، وأظهر ظلمًا، لكن الله أمر بالعدل والإحسان، وقد قال النبي صلى الله عليه سلم‏:‏ ‏(‏إنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة‏)‏‏.‏

ولم يسن رسول الله صلى الله عليه سلم ولا خلفاؤه الراشدون في يوم عاشوراء شيئًا من هذه الأمور، لا شعائر الحزن والترح، ولا شعائر السرور والفرح، ولكنه صلى الله عليه سلم لما قدم المدينة وجد اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ هذا يوم نجي الله فيه موسي من الغرق فنحن نصومه‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏نحن أحق /بموسي منكم‏)‏ فصامه وأمر بصيامه‏.‏ وكانت قريش ـ أيضًا ـ تعظمه في الجاهلية‏.‏

واليوم الذي أمر الناس بصيامه كان يومًا واحدًا، فإنه قدم المدينة في شهر ربيع الأول، فلما كان في العام القابل صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه، ثم فرض شهر رمضان ذلك العام، فنسخ صوم عاشوراء‏.‏

وقد تنازع العلماء‏:‏ هل كان صوم ذلك اليوم واجباً أو مستحبًا‏؟‏ على قولين مشهورين، أصحهما‏:‏ أنه كان واجبًا، ثم إنه بعد ذلك كان يصومه من يصومه استحبابا، ولم يأمر النبي صلى الله عليه سلم العامة بصيامه، بل كان يقول‏:‏ ‏(‏هذا يوم عاشوراء، وأنا صائم فيه، فمن شاء صام‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏صَومُ يوم عَاشُوراء يكفر سنة وصوم يوم عَرفَة يكفر سنتين‏)‏‏.‏ ولما كان آخر عمره صلى الله عليه سلم وبلغه أن اليهود يتخذونه عيدًا، قال‏:‏ ‏(‏لئن عشتُ إلى قَابلٍ لأصومنَّ التاسع‏)‏؛ ليخالف اليهود، ولا يشابههم في اتخاذه عيدًا، وكان من الصحابة والعلماء من لا يصومه، ولا يستحب صومه، بل يكره إفراده بالصوم، كما نقل ذلك عن طائفة من الكوفيين، ومن العلماء من يستحب صومه‏.‏

/والصحيح أنه يستحب لمن صامه أن يصوم معه التاسع؛ لأن هذا آخر أمر النبي صلى الله عليه سلم؛ لقوله‏:‏ ‏(‏لئن عشتُ إلى قَابلٍ، لأصومن التاسع مع العاشر‏)‏‏.‏ كما جاء ذلك مفسرًا في بعض طرق الحديث، فهذا الذي سنه رسول الله صلى الله عليه سلم‏.‏

وأما سائر الأمور، مثل اتخاذ طعام خارج عن العادة، إما حبوب وإما غير حبوب، أو تجديد لباس أو توسيع نفقة، أو اشتراء حوائج العام ذلك اليوم، أو فعل عبادة مختصة، كصلاة مختصة به، أو قصد الذبح، أو ادخار لحوم الأضاحي ليطبخ بها الحبوب، أو الاكتحال، أو الاختضاب، أو الاغتسال، أو التصافح، أو التزاور، أو زيارة المساجد والمشاهد، ونحو ذلك، فهذا من البدع المنكرة، التي لم يسنها رسول الله صلى الله عليه سلم، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا الثوري، ولا الليث بن سعد، ولا أبو حنيفة، ولا الأوزاعي، ولا الشافعي، ولا أحمد بن حنبل، ولا إسحاق بن راهويه، ولا أمثال هؤلاء من أئمة المسلمين وعلماء المسلمين، وإن كان بعض المتأخرين من أتباع الأئمة قد كانوا يأمرون ببعض ذلك، ويروون في ذلك أحاديث وآثارا، ويقولون‏:‏ إن بعض ذلك صحيح‏.‏ فهم مخطئون غالطون بلا ريب عند أهل المعرفة /بحقائق الأمور‏.‏ وقد قال حرب الكِرْماني في ‏[‏مسائله‏]‏‏:‏ سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث‏:‏ ‏(‏مَنْ وسَّعَ على أهله يوم عاشوراء‏)‏ فلم يره شيئًا‏.‏

وأعلى ما عندهم أثر يروي عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه أنه قال‏:‏ بلغنا أنه من وسَّع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته‏.‏ قال سفيان بن عيينة‏:‏ جربناه منذ ستين عامًا فوجدناه صحيحًا، وإبراهيم بن محمد كان من أهل الكوفة، ولم يذكر ممن سمع هذا ولا عمن بلغه، فلعل الذي قال هذا من أهل البدع الذين يبغضون عليا وأصحابه، ويريدون أن يقابلوا الرافضة بالكذب، مقابلة الفاسد بالفاسد والبدعة بالبدعة‏.‏

وأما قول ابن عيينة، فإنه لا حجة فيه، فإن الله ـ سبحانه ـ أنعم عليه برزقه، وليس في إنعام الله بذلك ما يدل على أن سبب ذلك كان التوسيع يوم عاشوراء، وقد وسَّع الله على من هم أفضل الخلق من المهاجرين والأنصار، ولم يكونوا يقصدون أن يوسعوا على أهليهم يوم عاشوراء بخصوصه، وهذا كما أن كثيرًا من الناس ينذرون نذرًا لحاجة يطلبها، فيقضي الله حاجته، فيظن أن النذر كان السبب، وقد ثبت /في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن النذر، وقال‏:‏ ‏(‏إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل‏)‏‏.‏ فمن ظن أن حاجته إنما قضيت بالنذر، فقد كذب على الله ورسوله، والناس مأمورون بطاعة الله ورسوله، واتباع دينه وسبيله، واقتفاء هداه ودليله، وعليهم أن يشكروا الله على ما عظمت به النعمة، حيث بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن خيرَ الكلام كلامُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة‏)‏‏.‏

وقد اتفق أهل المعرفة والتحقيق‏:‏ أن الرجل لو طار في الهواء، أو مشي على الماء، لم يتبع إلا أن يكون موافقًا لأمر الله ورسوله، ومن رأي من رجل مكاشفة أو تأثيرًا فاتبعه في خلاف الكتاب والسنة كان من جنس أتباع الدجال، فإن الدجال يقول للسماء‏:‏ أمطري فتمطر، ويقول للأرض‏:‏ أنبتي فتنبت، ويقول للخربة‏:‏ أخرجي كنوزك فتخرج معه كنوز الذهب والفضة، ويقتل رجلاً ثم يأمره أن يقوم فيقوم، وهو مع هذا كافر ملعون عدو الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من نبي إلا قد أنذر أمته الدجال، وأنا أنذركموه‏:‏ إنه أعور /وإن الله ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر ـ ك ف ر ـ يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ، واعلموا أن أحدًا منكم لن يري ربه حتي يموت‏)‏‏.‏ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا قعد أحدكم في الصلاة، فليستعذ بالله من أربع، يقول‏:‏اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال‏)‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتي يخرج ثلاثون دجالون كذابون، كلهم يزعم أنه رسول الله‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يكون بين يدي الساعة كذابون دجالون، يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم‏)‏‏.‏ وهؤلاء تنزل عليهم الشياطين وتوحي اليهم، كما قال تعالى ‏:‏ ‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 221،223‏]‏، ومن أول من ظهر من هؤلاء المختار بن أبي عبيد المتقدم ذكره‏.‏

ومن لم يفرق بين الأحوال الشيطانية والأحوال الرحمانية، كان بمنزلة من سوي بين محمد رسول الله وبين مُسيلمة الكذاب، فإن مسيلمة كان له شيطان ينزل عليه ويوحي إليه‏.‏

/ومن علامات هؤلاء‏:‏ أن الأحوال إذا تنزلت عليهم وقت سماع المكاء والتصدية أزبدوا وأرعدوا ـ كالمصروع ـ وتكلموا بكلام لا يفقه معناه، فإن الشياطين تتكلم على ألسنتهم، كما تتكلم على لسان المصروع‏.‏

والأصل في هذا الباب‏:‏ أن يعلم الرجل أن أولياء الله هم الذين نعتهم الله في كتابه، حيث قال‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عليهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62،63‏]‏، فكل من كان مؤمنًا تقيا كان لله وليا‏.‏ وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى ‏:‏ من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلىعبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىبالنوافل حتي أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه‏)‏‏.‏

ودين الإسلام مبني على أصلين‏:‏ على ألا نعبد إلا الله، وأن/ نعبده، بما شرع، لا نعبده بالبدع، قال تعالى ‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏

110‏]‏، فالعمل الصالح ما أحبه الله ورسوله، وهو المشروع المسنون؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول في دعائه‏:‏ اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا‏.‏

ولهذا كانت أصول الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث‏:‏ قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏الحلال بَينٌ والحرام بَينٌ، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقي الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعي حول الحمي يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمي، ألا وإن حمي الله محارمه، ألا وإن في الجسد مُضْغَةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب‏)‏‏.‏ والحمد لله رب العالمين، وصلي الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏